الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»
.تفسير الآية رقم (10): {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)}{إِذْ أَوَى الفتية إِلَى الكهف} يعني فتية من أشراف الروم أرادهم دقيانوس على الشرك فأبوا وهربوا إلى الكهف، {فَقَالُواْ رَبَّنَا ءاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً} توجب لنا المغفرة والرزق والأمن من العدو. {وَهَيّئ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا} من الأمر الذي نحن عليه من مفارقة الكفار. {رَشَدًا} نصير بسببه راشدين مهتدين، أو اجعل أمرنا كله رشداً كقولك: رأيت منك أسداً وأصل التهيئة إحداث هيئة الشيء..تفسير الآية رقم (11): {فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)}{فَضَرَبْنَا على ءاذَانِهِمْ} أي ضربنا عليهم حجاباً يمنع السماع بمعنى أنمناهم إنامة لا تنبههم فيها الأصوات، فحذف المفعول كما حذف في قولهم: بنى على امرأته. {فِى الكهف سِنِينَ} ظرفان لضربنا. {عَدَدًا} أي ذوات عدد، ووصف السنين به يحتمل التكثير والتقليل، فإن مدة لبثهم كبعض يوم عنده..تفسير الآيات (12- 20): {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)}{ثُمَّ بعثناهم} أيقظناهم. {لِنَعْلَمَ} ليتعلق علمنا تعلقاً حالياً مطابقاً لتعلقه أولاً تعلقاً استقبالياً. {أَيُّ الحِزْبَيْنِ} المختلفين منهم أو من غيرهم في مدة لبثهم. {أحصى لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا} ضبط أمد الزمان لبثهم وما في أي من معنى الاستفهام علق عنه لنعلم، فهو مبتدأ و{أحصى} خبره. وهو فعل ماضٍ و{أَمَدًا} مفعول له و{لِمَا لَبِثُواْ} حال منه أو مفعول له، وقيل إنه المفعول واللام مزيدة وما موصولة و{أَمَدًا} تمييز، وقيل: {أحصى} اسم تفضيل من الإِحصاء بحذف الزوائد كقولهم: هو أحصى للمال وأفلس من ابن المذلق، و{أَمَدًا} نصب بفعل دل عليه {أحصى} كقوله:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بالحق} بالصدق {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ} شبان جمع فتى كصبي وصبية. {ءَامَنُواْ بِرَبّهِمْ وزدناهم هُدًى} بالتثبيت.{وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ} وقويناها بالصبر على هجر الوطن والأهل والمال، والجراءة على إظهار الحق والرد على دقيانوس الجبار. {إِذْ قَامُواْ} بين يديه. {فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السموات والأرض لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إلها لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} والله لقد قلنا قولاً ذا شطط أي ذا بعد عن الحق مفرط في الظلم.{هَؤُلاء} مبتدأ. {قَوْمُنَا} عطف بيان. {اتخذوا مِن دُونِهِ ءالِهَةً} خبره، وهو إخبار في معنى إنكار. {لَّوْلاَ يَأْتُونَ} هلا يأتون. {عَلَيْهِمْ} على عبادتهم. {بسلطان بَيّنٍ} ببرهان ظاهر فإن الدين لا يؤخذ إلا به، وفيه دليل على أن ما لا دليل عليه من الديانات مردود وأن التقليد فيه غير جائز. {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا} بنسبة الشريك إليه.{وَإِذِ اعتزلتموهم} خطاب بعضهم لبعض. {وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ الله} عطف على الضمير المنصوب، أي وإذا اعتزلتم القوم ومعبوديهم إلا الله، فإنهم كانوا يعبدون الله ويعبدون الأصنام كسائر المشركين. ويجوز أن تكون {مَا} مصدرية على تقدير وإذ اعتزلتموهم وعبادتهم إلا عبادة الله، وأن تكون نافية على أنه إخبار من الله تعالى عن الفتية بالتوحيد معترض بين {إِذْ} وجوابه لتحقيق اعتزالهم. {فَأْوُواْ إِلَى الكهف يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم} يبسط الرزق لكم ويوسع عليكم. {مّن رَّحْمَتِهِ} في الدارين. {وَيُهَيّئ لَكُمْ مّنْ أَمْرِكُمْ مّرْفَقًا} ما ترتفقون به أي تنتفعون، وجزمهم بذلك لنصوع يقينهم وقوة وثوقهم بفضل الله تعالى، وقرأ نافع وابن عامر {مّرْفَقًا} بفتح الميم وكسر الفاء وهو مصدر جاء شاذاً كالمرجع والمحيض فإن قياسه الفتح.{وَتَرَى الشمس} لو رأيتهم، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكل أحد. {إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ} تميل عنه ولا يقع شعاعها عليهم فيؤذيهم، لأن الكهف كان جنوبياً، أو لأن الله تعالى زورها عنهم.وأصله تتزاور فأدغمت التاء في الزاي، وقرأ الكوفيون بحذفها وابن عامر ويعقوب {تزور} كتحمر، وقرئ: {تزوار} كتحمار وكلها من الزور بمعنى الميل. {ذَاتَ اليمين} جهة اليمين وحقيقتها الجهة ذات اسم اليمين. {وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ} تقطعهم وتصرم عنهم. {ذَاتَ الشمال} يعني يمين الكهف وشماله لقوله: {وَهُمْ في فَجْوَةٍ مّنْهُ} أي وهم في متسع من الكهف، يعني في وسطه بحيث ينالهم روح الهواء ولا يؤذيهم كرب الغار ولا حر الشمس، وذلك لأن باب الكهف في مقابلة بنات نعش، وأقرب المشارق والمغارب إلى محاذاته مشرق رأس السرطان ومغربه، والشمس إذا كان مدارها مداره تطلع مائلة عنه مقابلة لجانبه الأبيض وهو الذي يلي المغرب، وتغرب محاذية لجانبه الأيسر فيقع شعاعها على جانبيه، ويحلل عفونته ويعدل هواءه ولا يقع عليهم فيؤذي أجسادهم ويبلي ثيابهم. {ذلك مِنْ آيات الله} أي شأنهم وإيواؤهم إلى كهف شأنه كذلك، أو إخبارك قصتهم، أو ازورار الشمس عنهم وقرضها طالعة وغاربة من آيات الله. {مَن يَهْدِ الله} بالتوفيق. {فَهُوَ المهتد} الذي أصاب الفلاح، والمراد به إما الثناء عليهم أو التنبيه على أن أمثال هذه الآيات كثيرة ولكن المنتفع بها من وفقه الله للتأمل فيها والاستبصار بها. {وَمَن يُضْلِلِ} ومن يخذله. {فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّا مُّرْشِدًا} من يليه ويرشده: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا} لانفتاح عيونهم أو لكثرة تقلبهم. {وَهُمْ رُقُودٌ} نيام. {وَنُقَلّبُهُمْ} في رقدتهم. {ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال} كيلا تأكل الأرض ما يليها من أبدانهم على طول الزمان. وقرئ: {ويقلبهم} بالياء والضمير لله تعالى، و{تَقَلُبَهُمْ} على المصدر منصوباً بفعل يدل عليه تحسبهم أي وترى تقلبهم. {وَكَلْبُهُمْ} هو كلب مروا به فتبعهم فطردوه فأنطقه الله تعالى فقال: أنا أحب أحباء الله فناموا وأنا أحرسكم. أو كلب راع مروا به فتبعهم وتبعه الكلب، ويؤيده قراءة من قرأ: و{كالبهم} أي وصاحب كلبهم. {باسط ذِرَاعَيْهِ} حكاية حال ماضية ولذلك أعمل اسم الفاعل. {بالوصيد} بفناء الكهف، وقيل الوصيد الباب، وقيل العتبة. {لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ} فنظرت إليهم، وقرئ: {لَو اطلعت} بضم الواو. {لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا} لهربت منهم، و{فِرَاراً} يحتمل المصدر لأنه نوع من التولية والعلة والحال. {وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} خوفاً يملأ صدرك بما ألبسهم الله من الهيبة أو لعظم أجرامهم وانفتاح عيونهم. وقيل لوحشة مكانهم. وعن معاوية رضي الله عنه أنه غزا الروم فمر بالكهف فقال: لو كشفت لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم، فقال له ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ليس لك ذلك قد منع الله تعالى منه من هو خير منك فقال: {لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا} فلم يسمع وبعث ناساً فلما دخلوا جاءت ريح فأحرقتهم.وقرأ الحجازيان {لَمُلِئْتَ} بالتشديد للمبالغة وابن عامر والكسائي ويعقوب {رُعْبًا} بالتثقيل.{وكذلك بعثناهم} وكما أنمناهم آية بعثناهم آية على كمال قدرتنا. {لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ} ليسأل بعضهم بعضاً فتعرفوا حالهم وما صنع الله بهم فيزدادوا يقيناً على كمال قدرة الله تعالى، ويستبصروا به أمر البعث ويشكروا ما أنعم الله به عليهم. {قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} بناء على غالب ظنهم لأن النائم لا يحصي مدة نومه ولذلك أحالوا العلم إلى الله تعالى. {قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} ويجوز أن يكون ذلك قول بعضهم وهذا إنكار الآخرين عليهم. وقيل إنهم دخلوا الكهف غدوة وانتبهوا ظهيرة وظنوا أنهم في يومهم أو اليوم الذي بعده قالوا ذلك، فلما نظروا إلى طول أظفارهم وأشعارهم قالوا هذا ثم لما علموا أن الأمر ملتبس لا طريق لهم إلى علمه أخذوا فيما يهمهم وقالوا: {فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه إلى المدينة} والورق الفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة، وقرأ أبو بكر وأبو عمرو وحمزة وروح عن يعقوب بالتخفيف. وقرئ بالتثقيل وإدغام القاف في الكاف وبالتخفيف مكسور الواو مدغماً وغير مدغم، ورد المدغم لالتقاء الساكنين على غير حده، وحملهم له دليل على أن التزود رأي المتوكلين والمدينة طرسوس. {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا} أي أهلها. {أزكى طَعَامًا} أحل وأطيب أو أكثر وأرخص. {فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ} وليتكلف اللطف في المعاملة حتى لا يغبن، أو في التخفي حتى لا يعرف. {وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} ولا يفعلن ما يؤدي إلى الشعور.{إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ} أي يطلعوا عليكم أو يظفروا بكم، والضمير للأهل المقدر في {أَيُّهَا}. {يَرْجُمُوكُمْ} يقتلوكم بالرجم. {أَوْ يُعِيدُوكُمْ في مِلَّتِهِمْ} أو يصيروكم إليها كرهاً من العود بمعنى الصيرورة. وقيل كانوا أولاً على دينهم فآمنوا. {وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا أَبَدًا} إن دخلتم في ملتهم. .تفسير الآية رقم (21): {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)}{وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} وكما أنمناهم وبعثناهم لتزداد بصيرتهم أطلعنا عليهم. {لِيَعْلَمُواْ} ليعلم الذين أطلعناهم على حالهم. {أَنَّ وَعْدَ الله} بالبعث أو الموعود الذي هو البعث. {حَقّ} لأن نومهم وانتباهم كحال من يموت ثم يبعث. {وَأَنَّ الساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا} وأن القيامة لا ريب في إمكانها، فإن من توفى نفوسهم وأمسكها ثلاثمائة سنين حافظاً أبدانها عن التحلل والتفتت، ثم أرسلها إليها قدر أن يتوفى نفوس جميع الناس ممسكاً إياها إلى أن يحشر أبدانهم فيردها عليها. {إِذْ يتنازعون} ظرف ل {أَعْثَرْنَا} أي أعثرنا عليهم حين يتنازعون. {بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} أمر دينهم، وكان بعضهم يقول تبعث الأرواح مجردة وبعضهم يقول يبعثان معاً ليرتفع الخلاف ويتبين أنهما يبعثان معاً، أو أمر الفتية حين أماتهم الله ثانياً بالموت فقال بعضهم، ماتوا وقال آخرون ناموا نومهم أول مرة، أو قالت طائفة نبني عليهم بنياناً يسكنه الناس ويتخذونه قربة، وقال آخرون لنتخذن عليهم مسجداً يصلى فيه كما قال تعالى: {فَقَالُواْ ابنوا عَلَيْهِمْ بنيانا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا} وقوله: {رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} اعتراض إما من الله رداً على الخائضين في أمرهم من أولئك المتنازعين أو من المتنازعين في زمانهم، أو من المتنازعين فيهم على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، أو من المتنازعين للرد إلى الله بعد ما تذكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أنسابهم وأحوالهم فلم يتحقق لهم ذلك. حكي أن المبعوث لما دخل السوق وأخرج الدراهم وكان عليها اسم دقيانوس اتهموه بأنه وجد كنزاً فذهبوا به إلى الملك وكان نصرانياً موحداً فقص عليه القصص، فقال بعضهم: إن آباءنا أخبرونا أن فتية فروا بدينهم من دقيانوس فلعلهم هؤلاء، فانطلق الملك وأهل المدينة من مؤمن وكافر وأبصروهم وكلموهم، ثم قالت الفتية للملك نستودعك الله ونعيذك به من شر الجن والإِنس ثم ارجعوا إلى مضاجعهم فماتوا فدفنهم الملك في الكهف وبني عليهم مسجداً. وقيل لما انتهوا إلى الكهف قال لهم الفتى مكانكم حتى أدخل أولاً لئلا يفزعوا، فدخل فعمي عليهم المدخل فبنوا ثم مسجداً..تفسير الآية رقم (22): {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)}{سَيَقُولُونَ} أي الخائضون في قصتهم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب والمؤمنين. {ثلاثة رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} أي هم ثلاثة رجال يربعهم كلبهم بانضمامه إليهم. قيل هو قول اليهود وقيل هو قول السيد من نصارى نجران وكان يعقوبياً. {وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} قاله النصارى أو العاقب منهم وكان نسطورياً. {رَجْماً بالغيب} يرمون رمياً بالخبر الخفي الذي لا مطلع لهم عليه وإتياناً به، أو ظناً بالغيب من قولهم رجم بالظن إذا ظن وإنما لم يذكر بالسين اكتفاء بعطفه على ما هو فيه. {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} إنما قاله المسلمون بإخبار الرسول لهم عن جبريل عليهما الصلاة والسلام وإيماء الله تعالى إليه بأن أتبعه قوله: {قُل رَّبّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ} وأتبع الأولين قوله رجماً بالغيب وبأن أثبت العلم بهم لطائفة بعد ما حصر أقوال الطوائف في الثلاثة المذكورة، فإن عدم إيراد رابع في نحو هذا المحل دليل العدم مع أن الأصل ينفيه، ثم رد الأولين بأن أتبعهما قوله: {رَجْماً بالغيب} ليتعين الثالث وبأن أدخل فيه الواو على الجملة الواقعة صفة للنكرة تشبيهاً لها بالواقعة حالاً من المعرفة، لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت. وعن علي رضي الله عنه هم سبعة وثامنهم كلبهم وأسماؤهم: يمليخا ومكشلينيا ومشلينيا هؤلاء أصحاب يمين الملك، ومرنوش ودبرنوش وشاذنوش أصحاب يساره وكان يستشيرهم، والسابع الراعي الذي وافقهم واسم كلبهم قطمير واسم مدينتهم أفسوس. وقيل الأقوال الثلاثة لأهل الكتاب والقليل منهم. {فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظاهرا} فلا تجادل في شأن الفتية إلاَّ جدالاً ظاهراً غير متعمق فيه، وهو أن تقص عليهم ما في القرآن من غير تجهيل لهم والرد عليهم. {وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مّنْهُمْ أَحَداً} ولا تسأل أحداً منهم عن قصتهم سؤال مسترشد فإن فيما أوحي إليك لمندوحة من غيره، مع أنه لا علم لهم بها ولا سؤال متعنت تريد تفضيح المسؤول وتزييف ما عنده فإنه مخل بمكارم الأخلاق.
|